السؤال: جرت عادة كثير من النّاس عندنا أنّه إذا مات لهم ميّت أطعموا عنه الطّعام, وتصدّقوا بشيء من المال، واجتمع طلبة القرآن فرتّلوا منه ما تيسّر ويقبضون على ذلك صدقة. فهل ينتفع الميّت بثواب ما أُكل من الطّعام وما تُصدّق به عنه، وما قُريء من القرآن؟
الجواب: الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتّبعهداه.
طعام أهل الميّت:
في السّؤال ذكر الطّعام الّذي يقدّمه أهل الميّت لغيرهم، والسنّة في الإسلام أنّ أهل الميّت يصنع لهمالطّعام، يقدمه لهم غيرهم، لا أنّهم يصنعون الطّعام ويقدمونه لغيرهم لاشتغالهم عن صنعه لما دهمهم من المصيبة. فقد جاء في الحديث أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- لمّا جاءه نعي جعفر بن أبي طالب الّذي استشهد في معركة مؤتة، قال لأهله: « اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم » رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وبنماجه والحاكم عن عبد الله بن جعفر وهو صحيح.
والبدعة أن يصنع أهل الميّت الطّعام للنّاس ويطعمونهم إيّاه، وربما عُذّب الميّت بذلك لما روي عن جرير بن عبد اللهالبجلي صاحب رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أنّه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهلالميت وصنعهم الطّعام بعد دفنه من النّياحة ».
الميّت يعذّب بما نيح عليه: والنّياحة رفع الصّوت بالبكاء على الميّت وذكر المصيبة به، وذلك ممّا ورد التّحذير منه والنّهي عنه، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: « الميّت يعذّب في قبره بما نيح عليه ». ومثله عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: « إنّه من نيح عليه يعذّب بما نيح عليه ».ففي قول جرير رضي الله عنه نصيحة للمسلمين وتبصير بما قد يخفى على كثيرين لأنّ اجتماع النّاس لأهل الميّت وصنعهم الطّعام يدعو إلى البكاء ورفع الصّوت بذكر المصيبة بالميّت، ممّا يشعر بالسّخط على قضاء الله فيه، ولم يخف هذا عن صحابة رسول الله وهم أدرى بمفاهيم الشّريعة وتفسير أقوال النّبي ومعرفة أحوال النّاس .
هل هذا الطّعام صدقة؟ مثل هذا الطّعام لا يعدّ صدقة, لأنّ صنعه وإطعامه مخالف للسنّة, ولأنّ الّذين يأكلون منه أكثرهم أغنياء عنه, لا تصحّ فيهم الصّدقة، وإنمّا الصّدقة للفقير واليتيم والأسير والمسكين , ولا يغيّر صفته واسمه الحقيقي إذا سمّاه النّاس صدقة. ومن أراد أن يقدّم الطّعام صدقة عن الميّت فلا يقدّمه عند جنازته أو متّصلا بها.
الصدقة عن الميّت وهل ينتفع بها؟:إنّ الصّدقة الّتي يقدّمها الأحياء على الأموات لا ينبغي أن يكون منها الطّعام المصنوع عند الوفاة, أمّا الطّعام المقدّم على الميّت فمنه ما هو جائز ينتفع منه الميّت بإجماع العلماء, ومنه ما هو مختلف فيه . فالجائز المنتفع به بإجماع العلماء اثنان:
الأوّل: إذا كانت هذه الصّدقة من مال الميّت وكسبه, وكان قد أوصى بها قبل وفاته أو حبس أصلها, ونفّذها الورثة بعد موته. فهذه هي الجارية الواردة في الحديث الصّحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أن الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - قال :« إذا مات ابن آدم انقطع عملةإلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعوا له » رواه مسلم وغيره. وهذه الصّدقة هي في الحقيقة من سعي الإنسان وعمله، لا تعارض العموم في قولهتعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [ النجم: 39 ].
الثّاني: إذا كانت هذه الصّدقة من مال بنيه الذّكور أو الإناث المكلّفين، فهذه الصّدقة أيضا لا خلاف بين المسلمين في جوازها وانتفاع الميّت بها، لما ورد عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - في ذلك فقد روى مالك في الموطأ وروى غيره من الأئمة أنّ سعد بن عبادة -رضي الله عنه - توفيت أمّه وهو غائب في غزوة مع الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - فلمّاقدم أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، هل ينفعها أن أتصدّق عنها؟، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : « نعم »، فتصدّق عنها سعد بحائط (حديقة مثمرة). وروى البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها- أنّ رجلا قال للنّبي - صلّى الله عليه وسلّم - : إن أمّي افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدّقت، فهل لها أجر إن تصدّقت عنها؟ فقال:« نعم »، ومعنى افتلتت: ماتت فجأة لم تستطع الكلام. هذان الحديثان صريحان في انتفاع الميّتبصدقة ولده عنه. وهذه الصّدقة أيضا هي في الحقيقة من كسب الميّت وسعيه لأنّها منولده, وقد صحّ في الحديث أنّ ولد الرّجل من كسبه.
وأمّا المختلف فيه، فهو صدقةيقدّمها عن الميّت غير ولده من ولي، أو قريب أو بعيد، فهذه اختلف فيها العلماء، منهم من أجازها وقال: إنّ الميّت ينتفع بها، ومنهم من منع من ذلك لعدم ورود النّص فيها، ومقتضى عموم الآية: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ منعها.
صرّح علماء المذهب المالكي بالتّرغيب في صدقة وليّ الميّت عنه – ولم يقيدوه بالأولاد – وأنّها ممّا ينتفع به الميّت ويصل ثوابه إليه بلا خلاف عندهم.قال الشّيخ خليل في المختصر، وهو يتكلّم عن الحجّ: « وفُضِّل...تطوع وليِّهِ[عنه] بغيره: كصدقة ودعاء ». يعني أنّ الأفضل أن يتطوّع وليّ الميّت عنه بمثل الصّدقة والدّعاء لا بالحجّ، فإنّ حجّ عنه فقد فعل المفضول، والحجّ صحيح ينتفع به ولكنّ الأفضل لو تصدّق. قال الدّردير في شرحه: «(كصدقة ودعاء) وهدي وعتق لأنّها تقبلالنّيابة ولوصولها [ للميّت ] بلا خلاف، [فـ] المراد بالغير [غير مخصوص وهو] ما يقبل النّيابة كما ذكر، لا كصوم وصلاة، ويكره تطوّعه عنه بالحجّ ». اهـ. فصريح قول الدّردير أنّ الصّدقة تصل إلى الميّت بلا خلاف، كانت من ولد الميّت أو من وليّه، والوليّ يشمل الولد وغيره من القرابة، ويفهم من كلام النّووي -رحمه الله - في شرحه على صحيح مسلم مثل هذا العموم. فقد حكى الإجماع على أنّ الصّدقة تقع عن الميّت ويصل ثوابها، ولم يقيّد بكون المتصدّق ولدا للميّت. وهذا ما يفهم من كلام شيخ الإسلامابن تيميّة، وتلميذه ابن قيم الجوزيّة. – كما نقل الشّيخ محمّد رشيد رضا في تفسير المنار في كتابه – منتقى الأخبار – لحديث من سأل النّبي عن أخت له نذرت أن تحجّ فلم تفعل حتّى ماتّت وأجابه النّبي - صلّى الله عليه وسلم - بأنّه دين، ودين الله أحقّ أن يقضى؛ قال معقبا ما نصّه: « وهو يدلّ على صحّة الحجّ عن الميّت من الوارث وغيره حيث لم يستفصله أوارث هو؟ أم لا؟ وشبهه بالدّين ». فهذا الكلام من شيخ الإسلام يدلّ على أنّ مذهبه أنّ الميّت ينتفع بعمل غيره من الطّاعات والقربات المأذون فيها بالحجّ والصّوم والصّدقة من الابن وغيره، وارثا أو غير وارث.
ولم يرتض بعضالعلماء هذا، فمنعوا من انتفاع الميّت بصدقة غير الولد، ووقفوا عند النّص لعموم الآية في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾، ورأوا أنّ هذا العموم لا يخصّصه إلاّ نصّ صريح، مثل الإذن في الصّوم، والحجّ وصدقة الولد عن أبويه، وما لم يرد فيه نصّ لا يقاس على الولد. قال الشّيخ محمّد رشيد رضا في تفسيره المنار عند قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّنَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 164] ما نصّه : «...أن لا يصلّي ولا يصوم أحد عن أحد هو أصل الشّريعة العام في جميع النّاس إلاّ ما استثني بالنّص من صيام الولد أو حجّه أو صدقته عن والديه ». وقال: « وأمّا قياس عمل غير الولد على عمله فباطل، لمخالفته للنصّ القطعي [ على كونه قياسا مع الفارق] ». وقريب من قول صاحب المنار ما صرح به الشوكاني في كتابه" نيل الأوطار" حيث قال: « أحاديث الباب تدلّ على أنّ الصّدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصيّة منهما ويصل إليهما ثوابها... وأمّا من غير الولد فالظّاهر من العمومات القرآنيّة أنّه لا يصل ثوابها إلى الميّت فيوقف عليها حتّى يأتي دليل يقتضي تخصيصها» .
والأولى بالاتّباع مذهب الّذين توسّعوا وقالوا بانتفاع الميّت بالصدقة الّتي يقدّمها عنه أهله، بشرط أن تكون من أموالهم طيّبة بها نفوسهم، كأن يتصدّق عنه ابنه أو بنته أو أخوه أو أخته أو زوجته أو غيرهم، من مالهم الخاص، ويشترط أن لا تخالف السنّة بصنع الطّعام في جنازته واجتماع النّاس في داره بعد موته، خشية ممّا ورد من التّحذير من ذلك وهذا ما يفعله النّاس كما ورد في السّؤال، وكما هو الشّائع في أنحاء القطر مع الأسف. وممّا هو شائع معروف أنّ هذا الطّعام يصنع من مال الهالك قد يوصي به أولا يوصي، ومن المعلوم أنّ مال الميّت يصبح إرثا لورثته يتوقّف التّصرف فيه على إذنهم ورضاهم، وقد يكون فيهم يتامى قاصرين لا يحلّ أكل مالهم، ومن أتلفهضمنه.
الدّعاء للميّت:
من أعمال البرّ الدّعاء للميّت، وهو ممّا اتّفق العلماء على أنّه نافع للحيّ وللميّت، والقريب والبعيد، بوصيّة أو غيرها. وجاء في الحديث أنّ أفضل الدّعاء أن يدعو المؤمن لأخيه بظهر الغيب. وقد حكى النّوويّ في شرحه على صحيح مسلم الإجماع على القول بوصول الدّعاء إلى الميّت, وهل الصّلاة على الميّت إلاّ دعاء له، وهي فرض كفاية على الأحياء؟.
وفي القرآن الكريم والسنّة الصّحيحة القوليّة والفعليّة ما يدلّ على التّرغيب في دعاء المؤمنين لإخوانهم من الأحياء والأموات. قال تعالى في المؤمنين المتأخّرين: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحشر: 10]. وفي سورة نوح - على لسان نوح عليه السلام-: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: 28]. وفي صحيح مسلم من حديث بريدة – رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - كان يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أنيقول قائلهم: « السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية ». وفي حديث: « إذا مات ابن آدم انقطععمله...», جاء ذكر الولد الصّالح يدعو له, وكان الرّسول - عليه الصّلاة والسّلام - كثيرا ما يذهب إلى مقبرة البقيع يدعو لأموات المسلمين. وانتفاع الميّت بالدّعاء يكون بالاستجابة لدعوة الدّاعي وقبول دعائه.
التطوّع بالقرآن للميّت:
إن خرج هذا التّطوع مخرج الدّعاء للميّت, كأن يقول القارئ قبل شروعه في القراءة : اللهم اجعل ثواب ما أقرأه لفلان، فحكمه حكم الدّعاء, وصرح ابن رشد – من المالكية – بأنّه لا خلاف في جوازه لأنّه من باب الدّعاء ينتفع به الميّت إن كان مقبولا. وإن لم يخرج مخرج الدّعاء فقد اختلف فيه عند المالكيّة على قولين أشار إليهما الدّردير بالجواز والكراهة. والقول بالكراهة هو أصل المذهب، والقول بالجواز هو ما عليه المتأخّرون كما ذكره الشّيخ الدسوقي في حاشيته. ومنالقائلين بوصول ثواب قراءة القرآن للميّت العلّامة ابن القيّم قائلا: « إنّ الثّواب ملك للعامل فإذا تبرّع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله تعالى إليه».
وقد شدّد بعض المحقّقين من العلماء النّكير على التطوّع بقراءة القرآن وإهداء ثوابه إلى الميّت, وجعلوه من فعل المبتدعة الّذي يصدّق على فعلهم أنّه (ضلالة). قال الشّيخ الدّردير في شرحه على المختصر: « وقد صرّح بعض أئمّتنا بأنّ قراءة الفاتحة – أي مثلا – وإهداء ثوابها للنّبي - صلّى الله عليه وسلّم- مكروه. وسئل ابن حجر عمّن قرأ شيئا من القرآن وقال في دعائه: اللّهم اجعل ثواب ما قرأته زيادة في شرف النّبي - صلّى الله عليه وسلّم-. فأجاب: بأنّ هذا مخترع من متأخّري القرّاء لا أعلم لهم فيه سلفا, ونحوه لزين الدّين الكردي». ونقل الدّسوقي عن الحطاب شارح المختصر, أنّ جل العلماء على القول بالمنع من إهداء القرآن للنّبي شيء من القرب لأنّه لم يرد فيه أثر ولا شيء لمن يقتدي به من السّلف.اهـ. وقال فيه ابن تيميّة: « لا يستحب إهداء القرب للنّبي - صلّى الله عليه وسلّم- بل هو بدعة هذا الصّواب المقطوع به». وقال ابنالجزري: « لا يروى من السّلف ونحن نقتدي بهم».
قراءة (يس) على الموتى:
وقد روى بعض الأئمّة: أحمد وأبو داود وابن ماجة حديثا في قراءة سورة "يس" على الميّت عن معقل بن يسار لفظه: « يس قلب القرآن لا يقرأها رجل يريد الله والدّار الآخرة إلاّ غفر له, واقرؤوها على موتاكم ». وهو حديث معلول مضطرب، قال فيه الدارقطني: «هذاحديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن, ولا يصحّ في الباب حديث ». وحتّى على فرض صحّته فإنّ معناه القراءة عند الّذي حضره الموت, دليل ذلك أنّ ابن ماجة بوّب له فقال: باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا [حُضر]. وقد رجّح هذا المعنى ابن القيّم وجعله مثل الحديث الآخر: « لقنوا موتاكم لا إله إلا الله». رواه أحمد في مسنده عنأبي سعيد، ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة, والنّسائي عن عائشة. والحكمة من قراءة "يس" عند المحتضر انتفاعه بهذه السّورة لما فيها من التّوحيد والمعاد والبشرى بالجنّة لأهل التّوحيد وغبطة من مات عليه بقوله: ﴿ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾ [يس:26-27], ولو فهم الصّحابة أنّ المراد قراءة "يس" عند القبر لعملوا به ولما أخلّوا بفعله, ولم يُؤثرعنهم شيء من ذلك. وانتفاع المحتضر بقراءة "يس" هو المقصود, وأمّا قراءتها عند القبر وبعد الموت فلا ثواب له على ذلك, لأنّ الثّواب يحصل من القرآن إمّا بقراءته أو بسماعه, وكلاهما لا يحصل ممّن مات. هذا ما حقّقه ابن القيّم - رحمه الله-.
وقد حكم الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - أنّ القراءة على الميّت عند دفنه بالبدعة, قال : « بدعة لأنّه ليس من فعله عليه الصلاة والسّلام وفعل أصحابه ». فعلم أنّه محدث, وسألهابنه عبد الله: يحمل مصحفا إلى المقبرة فيقرأ فيه عليه, قال: «بدعة».
قال الشّيخ محمّد رشيد رضا في "تفسير المنار":« وإذ قد علمت أنّ حديث قراءة سورة "يس" على الموتى غير صحيح, وإن أُريد به من حضرهم الموت, وأنّه لم يصح في هذا الباب حديث قط – كما قال المحقّق الدارقطني – فاعلم أنّ ما اشتهر, وعمّ البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى, لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف, فهو من البدع المخالفة لما تقدّم من النّصوص القطعيّة, ولكنّه صار لسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثمّ بمجاراة العامة عليه, من قبيل السنن المؤكّدة أو الفرائض المحتّمة».
ثمّ ذكر - رحمه الله - خلاصة أنّ المسألة من الأمور التعبديّة, فيجب فيها الوقوف عند النّص وعمل السّلف الصالح, وقد ورد النّص بـ: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾، وورد مع ذلك الأمر بالدّعاء لأحياء المؤمنين وأمواتهم, وورد في الأخبار جواز صدقة الأولاد عن الوالدين ودعائهم لهما, وقضاء ما وجب عليهما من صيام أو صدقة أو نسك.. فمن أراد أن يتّبع الهدي فليقف عند النّصوصالصّحيح.
«الفدوة»وفسادها:
اعتاد النّاس في كثير من البلاد الإسلامية أن يحضروا طلبة القرآن يوم وفاة الميّت ويستأجروهم على قراءة (ختمة)، أو ما تيسّر منه عند رأس الميّت، وهو مسجى في بيته, أو قراءة سورة يس عند قبره, ويعطونهم (أجرا) بدل تلاوتهم, ويسمّون ذلك (فدوة).
لا شكّ في فساد هذا العمل وبطلانه, فقد رأينا اختلاف العلماء في (التطوّع) بقراءة القرآن وإهداء ثوابه للميّت, وإنّ من جوّزه إنّما جوّزه لأنّه اعتبره من باب الدّعاء, وأنّ من منعه استند على أنّ هذا ليس من السنّة إذ لم يرد فيه حديث, وليس من عمل السّلف الصّالح الأمناء على نقل الدّين قولاً وفعلاً, ولم يقل أحد من العلماء بصحة مثل هذه الإجارة فضلا عن اعتبار نتيجتها (فداء) الميّت, وماذا يبيع الطّالب؟ إن الإنسان يبيع ما يملكه ملكا صحيحا وهو معلوم للبائع والمشتري, فأمّا هذا الطّالب فقد باع ما لا يملك ولا يعلم, كما أنّ الميّت قد اشتُري له شيء غير معلوم, فمن علم أنّ الله أثابه؟ إنّ الله سبحانه إنّما يثيب على العمل الصالح خالصا لوجهه الكريم, وهو يقول: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف:110]. فإن كان ما يقبضه (الطلبة) ثمنالقراءتهم فيخشى أن يكون ذلك من أكل أموال النّاس بالباطل, وإن كان ما يعطى لهم تَكرُمة أو صدقة، وكانوا ممّن تصحّ فيهم الصدقة لفقرهم فقد تقدّم القول في الصّدقة.
1977/06/28
المرجع: فتاوى الجنائز للشيخ أحمد حماني (ص/46-59، ط1، 1429هـ، دار ابن حزم