الصحوة الإسلامية وأزمة بناء الشخصية
5-صفر-1431هـ 20-يناير-2010
عدد الزوار: 4371
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الصحوة الإسلامية قد ضربت بجذورها في كل أرجاء العالم الإسلامي، بل في بلاد الكفر ذاتها، وأصبحت العودة إلى الدين والالتزام به سِمَةً عامة في الشعوب والأفراد المسلمين لا يخطئها ناظر، ولا يستطيع أن يُغفلها مراقب.
وإن كل مسلم يدين بالولاء لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين لابد وأن يكون ناصحـًا لأبناء أمته، حريصًا على هدايتهم وعزِّهم وكرامتهم؛ ونصيحتُهم بما فيه خير دينهم ودنياهم واجبةٌ عليه من أعظم مقتضيات دينه؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الدِّينُ النَّصِيحَة). قُالوا: "لِمَنْ"؟ قَال: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) (رواه مسلم)؛ وإن مِن مقتضى تلك النصيحة إرشاد الأمة -وأبناء الصحوة على جهة الخصوص- إلى ما فيه قوة هذه الصحوة واستمرارها وثباتها على المنهج المستقيم.
"
السلفية لم تعمد يوما ما إلى إضعاف "الأزهر". بل إن السلفية تكاد تبحث في أي مسألة عمن وافق الحق فيها من شيوخ الأزهر لكي تنشر كلامه لما للأزهر من قبول عند الناس
"
فقد تبيَّن عبر تجارب التاريخ وما خاضه المسلمون من معارك وصراعات: أن قوة هذه الأمة هي في تمسكها بما جاء به نبيها -صلى الله عليه وسلم- كتابًا وسنة؛ مهما ضعفت قوتها المادية، وأن هزيمتها وضعفها هما في قبول الثقافات الوافدة إليها المخالِفة لكتاب ربها وسنة نبيها؛ مهما كان عند الأمة من أسباب القوة المادية.
ولهذا كان واجب المحافظة على الصحوة الإسلامية وصحة توجهها متمثلاً في المقام الأول في إيجاد الشخصية المسلمة المتكاملة التي هي حجر الزاوية واللبنة الأولى في أي بناء دعوي أو عمل تربوي. وهذه الشخصية المسلمة المتكاملة بأركانها الثلاثة التي بَيَّنها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل -الإسلام والإيمان والإحسان- لابد أن تتلقى مصادر تكوينها من المنبع الصافي الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما فهمه وطبَّقه الصحابة والتابعون وتابعوهم -رضي الله عنهم-.
ولو تأملنا ما حدث مِن خلل في تكوين هذه الشخصية في مراحل التاريخ المختلفة، بل في محاولات البناء المعاصرة لأبناء الصحوة بسبب المناهج المستوردة من ثقافات الأمم المخالفة لأهل الإسلام في هذه الجوانب الثلاثة: الجانب العقدي -الإيمان-، والجانب العبادي والعملي -الإسلام-، والجانب السلوكي والخلقي -الإحسان-؛ لعلمنا لماذا وصل حال أمتنا إلى ما وصل إليه، ومدى خطورة العقبات التي تواجهها الصحوة في حال فقدِها لثوابت التكوين لهذه الشخصية المسلمة وتعرضِها للتشويه والخلل.
ففي جانب الإيمان والعقيدة: كان علم الكلام ومناهج الفلسفة من أعظم أسباب الانحراف، وظهورِ الفرق المبتدعة، ونقصِ أو انعدامِ النور والهُدى الذي تميزت به العقيدة الإسلامية كما جاء بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى فـَقـَد مَن وقع في خضم هذه العلوم لذة الإيمان وحلاوته التي تغيِّر القلوب من الداخل، بل تغيِّر الإنسان كله.
"
ونحن نرحب بكل من ينصحنا سواء أنصح برفق أو بشدة طالما كان يريد أن يردنا إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة, وإلا رددناه نحن إلى ذلك؛ فالحق أحق أن يتبع
"
وفي الجانب العبادي والعملي: كان التقليدُ والتعصبُ المذهبيُّ وتفريعاتُ القياسيين البعيدةُ، والتحاكمُ إلى متون المشايخ دون نصوص الكتاب والسنة سببًا في تفرُّق الأمة واختلافها وتباغضها، ثم في تحول هذا الميراث كله في حس المقلدين المتأخرين إلى شعورهم أن الدين -الذي ما عَلِموه إلا هذا التقليد والتعصب- إنما هو مجموعة من المتناقضات ينتقي منها الإنسان ما يشتهيه؛ مما مهَّد الطريق أمام العلمانية والتغريب لنبذ كل هذا، ومعه نبذ أصول المنهج الإسلامي نفسه؛ بإلغاء مرجعية النصوص القرآنية والنبوية وإجماع سلف الأمة وما يتفرع منها، واستبدالِ النصوص الغربية والأفكار العلمانية التخريبية بها، والتي أعلنت بعد ذلك حربها للإسلام نفسِه دون مواربة؛ فكانت أخطر البدع التي شهدها عصرنا متمثلة في فصل الدين عن الدولة، بل عن الحياة كلها.
وفي الجانب السلوكي والخلقي: كان التصوف المُنحرف الذي ابتدأ نوعـًا من الغلو، ثم وصل إلى المزج بين السلوك والفلسفة المُلحدة المتمثـِّلة في وحدة الوجود؛ مما سدَّ الطريق على السالكين الراغبين في تهذيب نفوسهم وإصلاح قلوبهم، وَغـَوَّرَ مناهل التهذيب الحقيقية التي هي نصوص الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وسلف الأمة التي كانت شفاءً لما في القلوب وتربيةً للنفوس؛ دون غلو أو تفريط، ودون مبالغة أو إهمال لجانب من جوانب القلوب أو ركن من أركان الأخلاق والسلوك. وكان التصوف الفلسفي -الذي لا يعرف حقيقته أكثر المنتسبين المقلـِّدين لأئمتهم فيه- خطوة على طريق إغراق الأمة في الجهالات والضلالات والخرافات والانحرافات الخلقية؛ التي مهدت إلى الانهيار الخطير أمام السلوك الغربي، وأصبح تقليد الغرب بدلاً من شيوخ الضلال هو ديدنَ الشباب والفتيات، بل الرجال والنساء في بلاد المسلمين، والغرق في الشهوات المحرمة والإرادات الفاسدة التي دمرت أخلاق الأمة وسَهَّلتْ احتلالَ أعدائها لها جغرافيًّا وثقافيًّا وفكريًّا بعد الاحتلال العسكري.
إن إدراك أبناء الصحوة الإسلامية -بفصائلها المختلفة- لحقيقة الأزمة في تكوين الشخصية الإسلامية التي ندر وجودها هو الخطوةُ الأولى لصحة التعامل مع الموقف الخطير الذي تواجهه؛ فالذي يدرك أن سفينته تواجه الغرق سوف يكون سلوكُه وسرعةُ تحرُّكِهِ واستخراجُ طاقاته في البحث والعملُ على النجاة يختلف عن سلوك الذي يتعامل مع الموقف كقارئ صحيفة مستلقٍ على الفراش قبل النوم.
"
نريد أن نكون عونا لـ "الأزهر" على ما اتفقنا عليه ناصحين له في العودة إلى منهج السلف الذي عاد إليه "الأشعري" و"الجويني" و"الغزالي" وغيرهم من أساطين المنهج الأشعري
"
فلابد من الجدية في تحمُّل المسئولية، وعلاج الخلل الحاصل في بناء هذه الشخصية على المستوى الفردي والجماعي؛ فلا يصلح مِن الأفراد إهمالُ أنفسهم وجوانبَ شخصيتهم اغترارًا بصورة الالتزام دون حقيقته، أو اكتفاءً بصورة العلم دون حقيقته، أو إرضاءً للنفس بصورة العمل والسلوك دون حقيقته؛ فبناؤك أيها الأخ الكريم مسئوليتُك أنت في المقام الأول؛ فإن وجدتَ من يعنيك عليه أو ييسره لك فاحمد الله على ذلك، وإلا فاستعن بالله على استكمال جوانب النقص عندك، وإياك وتعليق الأخطاء على شماعة تقصير الآخرين، سواء عجزوا عن مساعدتك أم قصروا.
كذلك لا يصلح للجماعة أن تهمل تربية أبنائها، أو أن تستغرق في بعض صور العمل الدعوي؛ فتجعلها على رأس قائمة الأولويات، بينما يوضع بناء الأشخاص في ذيل القائمة! وربما لا يوضع إلا في بعض الأحيان؛ مما يجعل هؤلاء الأفرادَ عُرضةً للأهواء، ويجعل حصونَ الصحوةِ الإسلاميةِ مهددةً مِن الداخل.
إن الصحوة الإسلامية تتعرض اليوم لخطر تغيير مسارها وطمس هويتها من خلال فقد الأساسيات في بناء شخصية قادتها ودعاتها ورموزها وأبنائها؛ فبعد أن تعرَّضت المجتمعات الإسلامية منذ عهود الاحتلال الغربي لتغيير المسار وطمس الهوية، وحافظت الصحوة الإسلامية على ثوابتها ومرجعيتها؛ صار الخطر اليوم على الصحوة ذاتِها ومِن داخلها بكيد أعدائها مِن الكفار والمنافقين أيضًا بلا شك، لكنَّ الهزيمة إنما تأتي مِن الداخل، (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:120).
لابد أن نؤكد على ثوابتنا، ونربيَ أنفسنا وأبناءنا عليها في عمل متكامل لا يُهمِل جانبًا على حساب جانب، أو يَفقدُ التوازن في الدعوة أو العمل أو الحياة عمومًا؛ حتى تصل الراية إلى أيدي الأجيال القادمة بيضاء نقية كما أوصلها سلف الأمة لأتباعهم. والله من وراء القصد.
www.salafvoice.comموقع صوت السلف
http://www.salafvoice.com/article.php?a=3887&back=aHR0cDovL3d3dy5zYWxhZnZvaWNlLmNvbS9hcnRpY2xlcy5waHA/bW9kPXN1YmNhdGVnb3J5JmM9MTE3