حكم
المراهنة
في الألعاب الرياضية
ملخص من كتاب الفروسية
لابن القيم
تلخيص
سليمان بن صالح الخراشي ..الكتابة التي تحتها خط ترجيح ابن القيم للمسالة لمن اراد الاختصار...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد دار بحث مع بعض الأخوة الأفاضل عن حكم المراهنة بين اثنين أو فريقين إما بمال أو طعام أو نحوه في لعبة كرة الطائرة ، مما يزيد في حماسهم للعبها ! هل يدخل ذلك في الميسر المحرم بقوله تعالى يا أيها الذيـن آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟(1).
أم أن هذه المراهنة جائزة قياساً على ما ورد النص بجواز المراهنة فيه ، وهو المسابقة بالخيل أو الجمال أو الرماية بالسهام ؟!
فأحببت لأجل هذا تلخيص حكم هذه المسألة من كتاب (الفروسية) لابن القيم رحمه الله ، حيث أنه يُعَدُّ من أبرز من جَلَّى حكمها ، واستوعب الأقوال فيها .
عمدة هذا الباب حديثُُ واحدُُ هو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا سبق إلا في خف أو حافرٍ أو نَصْل) أخرجه أبو داود وغيره.
والسَبقُ هو ما يُدْفع عند الفوز بالرهان.
والخف: إشارة إلى سباق الإبل.
والحافر: إشارة إلى سباق الخيل.
والنصل: إشارة إلى السباق برمي السهم.
فهذه الأمور الثلاثة قد أجاز الإسلام المراهنة فيها بنص الحديث ، وعلى هذا أجمع العلماء.
ثم اختلفوا في: هل يُلحق بهذه الثلاث غيرها مما يشابهها؟ كالمسابقة على الأرجل ، والمصارعة ، والسباحة وحمل الأثقال ، وغيرها من الرياضات.
فقال الجمهور: لا تلحق بها ؛ لأن الحديث قد اقتصر على تلك الثلاث بصيغة الاستثناء.
قالوا: ولأن غير هذه الثلاث لا يُحتاج إليها في الجهاد كالحاجة إليها ، ولا يقوم مقامها ، ولا ينفع فيه نفعها ، فكانت كأنواع اللعب لا تجوز المراهنة عليها.
وذهب آخرون - وهو مذهب أبي حنيفة وقولُُ للشافعية - إلى جواز ذلك ، وحجتهم:
1- القياس على هذه الرياضات ، وكلها تمرين للبدن.
2- ومعنى الحديث السابق: إن أحق ما بُذل فيه السَبَق هذه الثلاث ، لكمال نفعها، وعموم مصلحتها ، فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة بحضرة طعام ولا صلاة وهو يدافعه الأخبثان)(1) ، وقوله: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)(2) . ونحو ذلك ، مما ينفي الكمال لا الصحة . ويشهد لهذا: ما ثبت من المراهنة في أمور أخرى غير هذه الثلاث منه صلى الله عليه وسلم أو من أحد صحابته بإقراره ، وهي مسألتان:
I- مراهنة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – لكفار قريش في مسألة انتصار الروم على الفرس الواردة في قوله تعالى آلم . غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين(3) فهو - رضي الله عنه - قد راهنهم على أن الروم سيغلبون الفرس في بضع سنين ، أي أقل من العشر ، وكان الرهن من الجانبين ، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
أما ادعاء أن هذه المراهنة من أبي بكر كانت قبل تحريم الرهان فقد رده ابن القيم – رحمه الله – رداً شافياً بقوله: (ولا يصح أن يقال: إن قصة الصديق منسوخة بتحريم القمار ؛ فإن القمار حُرِّم مع تحريم الخمر في آية واحدة ، والخمر حُرِّمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني النضير ، وكان ذلك بعد أحد بأشهر ، وأحد كانت في شوال سنة ثلاث بغير خلاف)(1).
قال: (وهذه الغلبة من الروم لفارس كانت عام الحديبية بلا شك ، ومن قال كانت عام وقعة بدر فقد وهم لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سفيان: (أن هرقل لما أظهره الله على فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكراً لله ، فوافاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بإيلياء ، فطلب من هناك من العرب ، فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب ، فقال له: إني سائلك عن الرجل..) فذكر الحديث ، وفيه: (فقال: هل يغدر؟ فقال أبو سفيان: لا ، ونحن الآن في أمان منه وفي مدة ما ندري ما هو صانع فيها) يريد أبو سفيان بالمدة: صلح الحديبية ، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست بلا شك ، فعُلم أن تحريم الرهان سابق على أخذ الصديق الرهان الذي راهن عليه أهل مكة)(2).
II- مصارعته صلى الله لركانة ومراهنته عليه ، وكان ذلك من الجانبين كما جاء في الحديث ( شاة بشاة )(3).
قال ابن القيم: (وهذه المراهنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه هي من الجهاد الذي يُظهر الله به دينه ويعزه به ، فهي من معنى الثلاثة المستثناة في حديث أبي هريرة ، ولكن تلك الثلاثة جنسها يُعد للجهاد بخلاف جنس الصراع، فإنه لم يعد للجهاد ، وإنما يصير مشابهاً للجهاد إذا تضمن نصرة الحق وإعلائه ، كصراع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة.
وهذا كما أن الثلاثة المستثناة إذا أريد بها الفخر والعلو في الأرض وظلم الناس كانت مذمومة ، فالصراع والسباق بالأقدام ونحوها إذا قصد به نصر الإسلام كان طاعة ، وكان أخذ السَبَق به حينئذ أخذاً بالحق لا بالباطل)(1).
قلت: وقد فَصَّل ابن القيم - رحمه الله – في كتابه أنواع هذه المسابقات وحكمها تفصيلاً حسناً لعله يكون قاعدةً في هذا الباب الذي اشتبه على كثير من الشباب ، وبه يتبين حكم كل مسابقة قد تخطر ببالك قال رحمه الله ، المغالبات في الشرع تنقسم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما فيه مفسدة راجحة على منفعته ، كالنَّرْد ، والشِّطْرَنج ، فهذا يحرِّمه الشارع ولا يُبيحه ، إذ مفسدته راجحة على مصلحته ، وهي من جنس مفسدة ا لسُّكْر ، ولهذا قَرَنَ الله سبحانه وتعالى بين ا لخمر والقمار في الحكم(2) ، وجعلهما قريني الأنصاب والأزلام ، وأخبر أنها كلها رجس ، وأنها من عمل الشيطان ، وأمر باجتنابها ، وعلَّق الفلاح باجتنابها ، وأخبر أنها تصدُّ عن ذكره ، وعن الصلاة ، وتهدَّد مَن لم ينتَهِ عنها ، ومعلومُُ أن شارب الخمر إذا سَكِرَ ، كان ذلك مما يصدُّه عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويوقع العداوة والبغضاء بسببه.
وكذلك المغالبات التي تُلْهي بلا منفعة ، كالنرد والشطرنج وأمثالها ، مما يصدُّ عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، لشدة التهاء النفس بها ، واشتغال القلب فيها أبداً بالفكر.
ومن هذا الوجه ، فالشَّطْرنج أشدُّ شُغْلاً للقلب وصدّاً عن ذكر الله وعن الصلاة ، ولهذا جعله بعض العلماء أشدَّ تحريماً من النَّرد ، وجعلَ النَّصَّ على أن اللاعب بالنَّرْد عاص لله ورسوله ، تنبيهاً بطريق الأولى على أن اللاعب بالشَّطْرَنج أشدُّ معصيةً ، إذ لا يحرَّم الله ورسوله فعلاً مشتملاً على مفسدة ثم يُبيح فعلاً مشتملاً على مفسدة أكبر من تلك ، والحس والوجود شاهدُُ بأن مفسدة ا لشّطْرَنج وشُغلها للقلب وصدَّها عن ذكر الله وعن الصلاة أعظُم من مفسدة النَّرْد ، وهي توقع العداوة والبغضاء ، لما فيها من قصد كلٍ من المتلاعبين قهر الآخر ، وأكل ماله ، وهذا من أعظم ما يوقع العداوة والبغضاء ، فحرَّم ا لله سبحانه وتعالى هذا النوع، لاشتماله على ما يبغضه ، ومَنْعه مما يحبه.
القسم الثاني: عكس هذا ، وهو ما فيه مصلحة راجحة ، وهو متضِّمن لما يحبُّه الله ورسوله ، معين عليه ، ومفض إليه ، فهذا شرعه الله تعالى لعباده ، وشرع لهم الأسباب التي تعين عليه ، وترشد إليه ، وهو كالمسابقة على الخيل والإِبل والنّضال ، التي تتضمن الاشتغال بأسباب الجهاد ، وتعلّم الفُروسية ، والاستعداد للقاء أعدائه ، وإعلاء كلمته ، ونصر دينه وكتابه ورسوله ، فهذه المغالبة تطلب من جهة العمل ومن جهة أكل المال بهذا العمل الذي يحبه الله تعالى ورسوله ، ومن الجهتين معاً.
وهذا القسم جوّزه الشارع بالرهان تحريضاً للنفوس عليه ، فإن النفس يصير لها داعيان: داعي الغلبة وداعي الكسب ، فتقوى رغبتها في العمل المحبوب لله تعالى ورسوله ، فعلم أن أكل المال بهذا النوع أكل له بحق لا بباطل.
وأما القسم الثالث: وهو ما ليس فيه مضرة راجحة ولا هو أيضاً متضمن لمصلحة راجحة يأمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذا لا يحرُمُ ولا يُؤمَرُ به ، كالصراع ، والعَدْو ، والسباحة ، وحمل الأثقال ... ونحوها.
فهذا القسم رخَّص فيه الشارع بلا عِوَض ، إذ ليس فيه مفسدة راجحة ، وللنفوس فيه استراحةُُ وإجمامُُ ، وقد يكون مع القصد الحسن عملاً صالحاً ، كسائر المباحات التي تصير بالنية طاعات ، فاقتضت حكمة الشرع الترخيص فيه، لما يحصل فيه من إجمام النفس وراحتها ، واقتضت تحريم العِوَض فيه ، إذ لو أباحته بِعوَض ، لاتَّخذته النفوس صناعةً ومكسباً ، فالتهت به عن كثير من مصالح دينها ودُنياها)(1).
قلت: بهذا التفصيل الحَسن يمكن لطالب العلم أن يعرف حكم كثير من المسابقات الحادثة ، وحكم المراهنة فيها:
1- فإذا كانت المسابقة مما لا نفع فيها للإنسان ، بل هي ضرر عليه ، ومهدرة لوقته ، ومضيعة للواجبات ، كلعبة البلوت وما شابهها ، فهذه يكون حكمها التحريم – أو الكراهة على أقل الأحوال – ولا تجوز المراهنة فيها.
2- وإذا كانت المسابقة فيها نفع للإنسان ومصلحة وكانت معينة على الجهاد في سبيل الله ، كالتدريب على الرمي بالسلاح مثلاً ، أو تدريبات الطيران أو نحو ذلك ، فهذه ينبغي تشجيع الناس على ممارستها ، وتجوز المراهنة عليها.
3- وإذا كانت المسابقة فيها إجمام للإنسان ، ولا ضرر منها ، ولكنها لا تُعد من المسابقات المهيئة للجهاد ، وإنما هي إلى اللعب أقرب ، كالألعاب الرياضية المعاصرة ، مثل كرة القدم وكرة الطائرة ، والتنس ، والجري ...... الخ ، فهذه تجوز ، لما فيها من إجمام النفس وراحتها ، إضافة إلى تنشيط البدن . ولكن لا تجوز المراهنة فيها من الطرفين ، لأنها أقرب إلى اللعب من الإعداد للجهاد .
من هو الباذل للرهن في المسابقة على الخيل والإِبل والسهام ؟
بعد أن عرفنا أن المراهنة من الطرفين لا تجوز إلا في سباق الإِبل ، وسباق الخيل ، وسباق رمي السهام ، وما شابهها ، مما يعين على الجهاد ، بقي أن نعرف من هو الباذل (للسَبَق) وهو الجائزة:
ذهب الجمهور إلى أن الباذل للرهن يجوز أن يكون :
1- أحد المتسابقين.
2- أو كلاهما.
3- أو طرفاً ثالثاً.
أما إذا كان الباذل للسَبَق ( أي الجائزة ) أحد المتسابقين ، فقد أفتى الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله – بجوازه ، كما في الفتوى التالية:
س: ما حكم المسابقة إذا كانت في عوض من أحد المتسابقين؟
الجواب: حكمها الجواز ، وتوضيح المسابقة إذا كانت على عوض من أحد المتسابقين أن يقول مثلاً: عليَّ مائة ريال إن سبقتني ، أو يقول عليك مائة ريال إن سبقتُك ، أما إذا قال: إن سبقتني فعلي مائة ريال وإن سبقتُك فعليك مائة فهذا لا يجوز إلا في الخيل والإِبل والسهام ، لثبوت ا لسنة بذلك ، وإذا كان العوض من طرف ثالث لم يشارك المتسابقين – فهذا لا بأس به في المسابقات الجائزة غير المحرّمة ، مثل أن يقول: تسابقوا على الأقدام والذي يسبق منكم له مائة ريال ، أو تصارعوا والذي يصرع منكم له مائة ريال ، فهذا لا بأس به ، لأنه يعتبر مكافأة وتشجيعاً.
ولكن اشترطوا إذا كان الذي يدفع الرهان كلاهما أن يكون هناك محلِّل ، وهو طرف ثالث يشار: في السباق ولا يدفع شيئاً ، فإن سبقهم أخذ الرهن ، وإن سبقوه لا يدفع شيئاً ، وإن سبق أحد المتراهنين شاركه في الرَهَن . لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يُسْبَق، فلا بأس ، ومن أدخل فرساً بين فرسين ، وهو آمن أن يُسّبَق ، فهو قمار).
وهو حديث ضعيف(1) ، وقد أطال شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في رد هذا القول ، ورجحوا عدم اشتراط المحلل . وأن اشتراط المحلل إنما هو مذهب تلقاه الناس من سعيد بن المسيب ، ولم يكن يُعرف عند الصحابة - رضي الله عنهم -.
قال شيخ الإسلام: ( ما علمت بين الصحابة خلافاً في عدم اشتراط المحلل)(2) وقال ابن القيم: (والقول بالمحلل مذهب تلقاه الناس عن سعيد بن المسيب ، أما الصحابة فلا يُحْفظ عن أحد منهم قط أنه اشترط المحلل ، ولا راهن به ، مع كثر تناضلهم ورهانهم ، بل المحفوظ عنهم خلافه)(3).
قال: ( والذي مَشَّى هذا القول – أي اشتراط المحلل – هيبة قائله ، وهيبة إباحة القمار ، وظنوا أن هذا مخرجُُ للعقد عن كونه قماراً ، فاجتمع عظمة سعيد عند الأمة ، وعظمة القمار وقبحه)(4).
وذهب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى جواز أن يبذل (السَبَق) أحد المتسابقين ، أو كلاهما ، أو طرفاً ثالثاً دون اشتراط (محلِّل) ، لضعف الحديث السابق ، ولأدلة كثيرة ذكروها ، وهو الراجح – إن شاء الله – لقوة حجته .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
كتبه: أبو مصعب
سليمان بن صالح الحراشي
1421هـ